الأحد، 18 فبراير 2018

رحلتي من أريكتي إلى البُندقية



كثيرًا ما خلق اسمُ مدينة البُندقية الإيطالية أثرًا أدبيا في نفسي وَرُغم أن انعكاسات هذا الإسم العريق لم تَظهر سابقًا في مقالاتي إلا أن صداه ظلّ يُحفز دواخلي بشكل مُتوارث كُلما مرّ على سمعي في حوار ثقافي أو لمحته عيني بين أسطر قصة قَديمة أو مقال سياحي أو تقرير إعلامي على الإنترنت و شاشات التلفزة.
ولأن شهر شُباط/فبراير في مدينتي عمّان يُجبرك ببرودة طقسه أن تُجابه مشاهد الحياة اليومية وأنت تمارس هواياتك المختلفة وفي يدك مشروب ساخن ، قررت ذات مساء أن أرتاح على أريكتي وأنا أستنشق بخار القهوة الذي يرسم لوحات تجريدية مختلفة أثناء ارتفاعه نحو السقف وكنت قد قررت وقتها أن أسافر بخيالي إلى فينيسيا خاصة أن ظروف الحياة التي كُتبت في أقدارنا منحتني حق السفر إلى ثلاثة دول عربية إلى الآن فقط بينما بقي حلم السفر إلى البندقية مقيدا بأمنيات بعيدة المنال.

 نظرتُ إلى الأعلى وأنا لازلت أتأمل الدخان المتصاعد وأحلق بخيالي وراءه ببطء حتى وصلت إلى سقف الغرفة الذي فتح بوابة إلى نفق حلزوني لم أصل إلى نهايته حتى وجدت نفسي أقف بابنبهار كبير على جسر ريتالو الذي يقطع بهندسة متقنة قناة مائية كبرى تسمى القنال الكبير ويعود تاريخ بناء هذا الجسر إلى القرن السادس العشر الميلادي بحسب المراجع والروايات التاريخية ، المهم كانت بالنسبة لي رؤية جنادل البندقية التي تأخذ السياح في رحلات مائية لمشاهدة المدينة مليئة بفضول الإنتظار الطويل لعاشقة قديمة تأملتها كثيرا بدون حيلة وشاهدتها فقط في صور مذيلة بتوقيع ملتقطها وتاريخ الإلتقاط.

حين وعيت على نفسي وأنا أقف على الجسر كان أول من عانقني في فينيسيا ليلها الذي بدا حالما بأضوائه الخافتة كأنهُ يدعو قلبي ليجدد حُبه مَع هذه المدينة العريقة، أما طقسها فلم يختلف كثيرًا ببرودته عن طقس مدينتي عمّان ربّما قل عنه أو زاد بدرجة واحدة فقط ما أشعرني أنني لست غريبة عن أجوائها.

في البندقية أو ملكة البحر الأدرياتيكي كما يطلق عليها تتخيل أن مبانيها العتيقة تحدثك بوشوشة عن تاريخها وقاطنيها وتراثها وعن أمة مُختلفة المشارب والأعراق تعاقبت عليها عبر العصور.


تحدثك النقوش والأقواس في قصورها والتي تعود إلى عصر النهضة عن عراقة بنائها

وتفاصيل تلهم الناظر إليها وتحمله على جناح الخيال إلى عُصور شيدت بها ليصافح
الأنامل التي عملت عليها بإخلاص متقن ومجهود كبير.
وعلى امتداد الساحل الإدرياتيكي الذي يحتضن البندقية في مشهد عناق قديم تقرأ حكايات تاريخية مليئة بالإنتصارات والهزائم والإزدهار والتوسع و حتى السقوط والتي حدثت جميعها على مراحل متعاقبة.
وحين تَلمح عيناك قصر دوكالي الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الرابع عشر والذي تم تحويله إلى متحف في عام 1923م ترى مظاهر العمارة القوطية التي تعتمد على الحجارة والخشب والحديد والطوب المحروق في البناء والتي تتخذ أشكالًا هندسية رائعة
كالأقبية المضلعة والأعمدة الطائرة والأقواس البارزة الأمر الذي يولد بداخلك وأنت تتأمله مشاعر مليئة برغبات السفر عبر الزمن إلى حقبة بنائه لإشباع الجانب المعرفي بكَ حول الأسلوب المتبع في هندسته.
وفي ميدان سان ماركو تقف مكتبة مارشانا القومية بشموخ وثراء وهي تحتضن   إرثًا ضخمًا بلغ حوالي مليون مجلد متخصص في فقه اللغة القديمة وفي التاريخ فضلًا عن احتوائها على العديد من المخطوطات اليونانية واللاتينية والشرقية التي تهم هواة القراءة والتنقيب في التاريخ حول العالم.
وكانت جولتي بين القنوات المائية التي تقطع المباني والقصور القديمة كأنها توغلٌ مُذهل في سيمفونيات باغانيني ولوحات رافئيل ومسرحية تاجر البندقية لشكسبير  وأشعار جوزيبي اونغاريتي و رحلات التاجر البندقي ماركو بولو.
أخيرًا وصلتُ برحلتي إلى جسر التنهدات الذي صممه المهندس الإيطالي أنطونيو كونتينو والذي يعد حلقة وصل بين قصر البندقية وسجن سابق لمحاكم التفتيش وهناك كانت الساعة تبلغ الثالثة صباحًا بتوقيت مدينتي عَمّان وكان عليّ أن أُغادر فينيسيا قبل أن يدركنا الصباح في الأردن وتَلحظ عودتي المتأخرة أعينَ اللئام الذين نتعثر بهم أحيانًا حتى في خيالنا :) ،أوقفتُ الجندول تحت الجسر مُباشر وبدأتُ أتأملُ البخار المُتصاعد من فمي بفعل البرد إلى أسفل الجسر المقوس وأنا أحلق خلفَهُ ببطء على جناح مقطوعة إيطالية حتى عُدت من أحلامي إلى مجلسي في عَمان وأنا أتساءل بَعد أن أحببتُ هذه المدينة التي رأيتها دائما في تصوراتي هل ياتُرى لو كُتب لي السّفرُ في الواقع إلى البندقية سيكون لسان حالي مماثلا للمثل المشهور: "أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه" ؟!




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق